فصل: فَصْل فِي بَيَانِ تَحْرِيْمِ الحَسَد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.فصل في أسباب الغضب وآثاره:

ومن أسباب الْغَضَب المشاحة فِي البيع والشراء: فيغضب الواحد إِذَا لم تكن السومة تناسب القيمة أو ساومه ولم يشتر أو لم يقرضه أو لم يعنْه أو نحو ذَلِكَ والْغَضَب فِي مثل هذه الأحوال حماقة لا مبرر لها لأنه ما دام لم يعتد عَلَى حقه فلَيْسَ لَهُ أن يغضب وعَلَيْهِ أن يعتدل فِي بيعه وشرائه، وأن يمرن نَفْسهُ عَلَى احتمال ما يقع عادة عِنْدَ البيع والشراء من النزاع وأن يمرن نَفْسهُ دائماً عَلَى التواضع ويذكرها بعظمة الله ويفهمها بأنه ضعيف مخلوق من ماء مهين، وأنه صائر إلي الفناء، وأنه سيكون عظاماً بالية يوطأ بالأقدام كما قيل:
يُدَّفِنُ بَعْضُنَا بَعْضاً وَتَمْشِي ** أَوَاخِرُنَا عَلَى هَامِ الأوَالِي

ومن كَانَ هَذَا شأنه فلا يليق به التكبر فيحقر خلق الله ويطغي عَلَيْهمْ الَّذِينَ ربما رفعهم الله عَلَيْهِ قال بعضهم.
لاَ تَحْقِرنَّ أَبَيْتَ اللَّعْنِ ذَا أَدَبٍ ** فَكم وَضِيْعٍ مِنْ الأقْوَامِ قَدْ رَئِسَا

فَرُبَّ قَوْمٍ حَقَرْنَاهُمْ فَلم نَرَهُمْ ** أَهْلاً لِخِدْمَتِنَا كَانُوا لَنَا رُؤَسَا

فإِذَا نزعت نَفْسهُ إلي التواضع فإنه لا يتألم لتلك الاعتبارات التي يتألم منها المتكبرون وبهَذَا بإذن الله يدفع عن نَفْسهِ سرعة الْغَضَب إلي أن تقل حدتها وتذهب ثورتها وهَذَا أهم ما تعالج به أنفس المستعدين بفطرتهم للغضب وأما من كانت سرعة غضبه لَيْسَتْ طبيعة لَهُ ولكنها اكتسبت بالعادة والمخالطة فإنه يعالج بأمور أولاً اجتناب مصاحبة الأشْرَار والبعد عنهم، ثانياً: اجتناب الأسباب المثيرة للغضب آنفاً ثالثاً تعليمه أنه لَيْسَ للإنسان أن يغضب إلا من أجل دينه أو نَفْسهِ أو عرضه أو ماله وما زَادَ عَلَى هَذَا فهو رذيلة مذمومة يجب عَلَى العاقل أن يتنبه لها ولا يذرها تتسلط عَلَيْهِ فتضيع سلطة العقل ويصبح الإنسان عرضة للهلاك فِي الدُّنْيَا والآخرة وحسبك فِي ذم الْغَضَب أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم خطب فِي الناس عصر يوم من الأيَّام فكَانَ مِمَّا قاله لهُمْ: «إن بني آدم خلقوا عَلَى طبقات شتي ألا وإن مِنْهُمْ البطيء الْغَضَب سريع الفيء والسريع الْغَضَب سريع الفيء والبطيء الْغَضَب بطيء الفيء فتلك بتلك ألا وإن مِنْهُمْ بطيء الفيء سريع الْغَضَب ألا وخيرهم بطيء الْغَضَب سريع الفيء وشرهم سريع الْغَضَب بطيء الفيء ألا وإن مِنْهُمْ حسن الِقَضَاءِ حسن الطلب وَمِنْهُمْ سيء الِقَضَاءِ حسن الطلب وَمِنْهُمْ سيء الطلب حسن الِقَضَاءِ فتلك بتلك ألا وإن مِنْهُمْ سيء الِقَضَاءِ سيء الطلب ألا وخيرهم الحسن الِقَضَاءِ الحسن الطلب وشرهم سيء الطلب ألا وإن الْغَضَب جمرة فِي قلب ابن آدم أما رأيتم إلي حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه وسيئات الْغَضَب كثيرة ونتائجه الوخيمة أكثر. فمن أحس بشَيْء من ذَلِكَ فليلصق بالأرض». رواه الترمذي.
ومن سيئاته: أن الطلاق غالباً يحدث عن غضب، ومن سيئاته أن الفراق بين الأقارب والأولاد يقع غالباً عن غضب.
ومن سيئاته: إتلاف بعض الْمَال أو كله.
إِذَا المَرْءُ لم يَغْلِبْ مِنَ الغَيْضِ سَوْرَةً ** فلَيْسَ وإِنْ فَضَّ الصَّفَا بِشَدِيْد

ومن سيئاته: أنه ربما قضي عَلَى نَفْسهِ أو عَلَى أولاده بسبب غضبه ومن سيئات الْغَضَب أن الإنسان إِذَا غضب أطلق لِسَانه بالقذف والغيبة والنميمة والبهت والاستهزاء والسخرية والشتم والسب وسائر أنواع المعاصي التي تقضي عَلَى حسناته إن كَانَ لَهُ حسنات وإلا فتوقره من سيئات عدوه ولَوْ ملك نَفْسهُ لسلم من ذَلِكَ كله.
ومن سيئاته: أنه يفضي إلي المهاترات الشفهية وتبادل السباب بين المتخاصمين وهَذَا لا يجوز وَكم من معارك تبتذل فيها الأعراض وتعدو الشتائم المحرمة عَلَى الحرمَاتِ البعيدة ولَيْسَ لهذه الآثام الغليظة من علة إلا تسلط الْغَضَب، وضياع الأدب، ولذَلِكَ كَانَ ضبط النفس عِنْدَ سورانه دَلِيل قدرة محمودة ورزانة عقل وحسبك دليلاً عَلَى ذَلِكَ ما ورد عَنِ ابن مسعود قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «ما تعدون الصرعة فيكم؟» قَالُوا: الَّذِي لا تصرعه الرجال. قال: «لا. ولكن الَّذِي يملك نَفْسهُ عِنْدَ الغضب» وراه مسلم.
وَقَالَ رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني ولا تكثر عَلَىَّ لعَلَى لا أنسي. قال: «لا تغضب». وروي أَبُو هُرَيْرَةِ أن رجلاً قال: يَا رَسُولَ اللهِ مرني بعمل وأقلل. قال: «لا تغضب». ثُمَّ أعاد عَلَيْهِ فَقَالَ: «لا تغضب». ثُمَّ أعاد عَلَيْهِ فَقَالَ: «لا تغضب». رواه البخاري، وَقَالَ ابن عمر: قُلْتُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: قل لي قولاً وأقلله، لعَلَى أعقله. فَقَالَ: «لا تغضب». فأعدت عَلَيْهِ مرتين، كُلّ ذلك يرجع إلي «لا تغضب». أخرجه أبو يعَلَى بسند حسن وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةِ: قال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ الشديد بالصرعة، وإنما الشديد الَّذِي يملك نَفْسهُ عِنْدَ الغضب» متفق عَلَيْهِ، وَقَالَ ابن عمر: قال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «من كف غضبه ستر الله عورته». أخرجه ابن أبي الدنيا.
وإليك بعض الآثار: قال عَبْد اللهِ بن مسعود: انظروا إلي الرجل عِنْدَ غضبه وأمانته عِنْدَ طمعه وما علمك بحلمه إِذَا لم يغضب وما علمك بأمانته إِذَا لم يطمَعَ، وكتب عمر بن عَبْد الْعَزِيز إلي عامله: أن لا تعاقب عِنْدَ غضبك وإِذَا غضبت عَلَى رجل فاحبسه فإِذَا سكن غضبك فأخرجه فعاقبه عَلَى قدر ذنبه، وَقَالَ عَلَى بن زيد: أغلظ رجل من قريش لعمر بن عَبْد الْعَزِيز القول فأطرق عمر زمانَاً طويلاً ثُمَّ قال أردت أن يستفزني الشيطان بعز السُّلْطَان فأنال منك الْيَوْم ما تناله مني غداً.
وَقَالَ بَعْضهمْ لابنه: يا بني لا يثَبِّت العقل عِنْدَ الْغَضَب كما لا تثَبِّت الروح فِي الحي فِي التنانير المسجورة ومِمَّا يروي عن ذي القرنين أنه لقي ملكاً من الملائكة فَقَالَ: علمني عِلماً أزداد به إيمانَاً ويقيناً قال: لا تغضب فإن الشيطان أقدر ما يكون عَلَى ابن آدم حين يغضب فرد الْغَضَب بالكظم وسكنه بالتودة وَإِيَّاكَ والعجلة، وعن ابن عباس قال: لما قدم عيينة بن حصن نزل عَلَى ابن أخيه الحر بن قيس: وكَانَ من النفر الَّذِينَ يدنيهم عمر، إذ كَانَ القراء أصحاب مجلس أمير الْمُؤْمِنِين عمر ومشاورته كهولاً كَانُوا أو شبانَاً فَقَالَ عيينة يا ابن أخي استأذن لي أمير الْمُؤْمِنِين فاستأذن لَهُ فَلَمَّا دخل قال: هيه يا ابن الخطاب فوَاللهِ ما تعطينا الجزل ولا تحكم بيننا بالعدل فغضب عمر حتي هم أن يوقع به فَقَالَ الحر يا أمير الْمُؤْمِنِين إن الله يَقُولُ لنبيه صلى الله عليه وسلم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}، وإن هَذَا من الجاهلين، فوَاللهِ ما جاوزها عمر حين تلاها عَلَيْهِ وكَانَ وقافاً عِنْدَ كتاب الله وإنما غضب عمر رَضِيَ اللهُ عنهُ وهم بردع الأعرابي لتطاول الأعرابي عَلَيْهِ لأنه لم يدخل ناصحاً أو مشيراً بخَيْر وإنما دخل عَلَيْهِ فِي سلطانه ليشتمه دون مبرر وليسأله عطاءً جزيلاً عَلَى غَيْر عمل فَلَمَّا ذكر عمر بأن هَذَا من الجاهلين أعرض عنهُ وتركه ينصرف سالماً وفِي الْحَدِيث: «من كظم غيظاً وَهُوَ يقدر أن ينفذه، دعاه الله يوم القيامة عَلَى رؤوس الخلائق حتي يخيره فِي أي الحور العين».
مَنْ لِي بِإِنْسَانٍ إِذَا أَغَضَبْتُهُ ** وَجَهِلْتُ كَانَ الحِلْمُ رَدَّ جَوَابِهِ

وَتَرَاهُ يُصْغِي لِلْحَدِيْثِ بِسَمْعِهِ ** وَبِعَقْلِهِ وَلَعَلَّهُ أَدْرَى بِهِ

إِذَا مَا سَفِيه نَالَنِي مِنْهُ نَائِلٌ ** مِنَ الذَّمِ لم يَحْرُجْ بِمَوقِفِهِ صَدْرِي

أَعُوْدُ إِلى نَفْسِي فَإِنْ كَانَ صَادِقاً ** عَتِبْتُ عَلَى نَفْسِي وَأَصْلَحْتُ مِنْ أَمْرِي

وَإلا فَمَا ذَنْبِي إِلى النَّاسِ إِنْ طَغَى ** هَوَاهَا فَمَا تَرْضَى بِخَيْرٍ وَلاَ شَرٍّ

تَنَبَهْ قُبَيْلَ المَوْتِ إِنْ كُنْتَ تَعْقِلُ ** فَعَمَا قَلِيْلٍ لِلْمَقَابِرِ تُنْقَلُ

وَتُمْسِي رَهِيْناً لِلْقُبُورِ وَتَنْثَنِي ** لَدِي جَدَثٍ تَحْتَ الثَرَى تَتَجَنْدَلُ

فَرِيْداً وَحِيْداً فِي التُّرَابِ وِإِنْمَا ** قَرِيْنُ الفَتَى فِي القَبْرِ مَا كَانَ يَعْمَلُ

فَوَا أَسَفاً مَا يَفْعَلُ الدُوْدُ وَالثَرَى ** بِوَجْهٍ جَمِيْلٍ كَانَ للهِ يَخْجَلُ

وَمَا يَفْعَلُ الجِسْمُ الوَسِيْمُ إِذَا ثَوَى ** وَصَارَ ضَجِيْعَ القَبْرِ يَعْلُوْهُ جَنْدَلُ

وَبَطْنِي بَدَا فِيه الرَّدَى ثُمَّ لَوْ تَرَى ** دَقِيْقَ الثَّرَى فِي مُقْلَتِي يَتَهَرْوَلُ

أَعَيَنْايَ جُوْدَا بِالدُمُوعِ عَلَيْكُمَا ** فَحُزْنِي عَلَى نَفْسِي أَحَقُ وَأَجْمَلُ

وَيَا مُدَّعِي حُبِي هَلُّمَ بِنَا إِذَا ** بَكَى النَّاسُ نَبْكِي لِلْفِرَاقِ وَنُهْمِلُ

دَعِي اللَّهْوَ نَفْسِي واذْكُرِي حُفْرَةَ البِلَى ** وَكَيْفَ بِنَا دُوْدُ المَقَابِرِ يَفْعَلُ

إِلى اللهِ أَشْكُو لاَ إِلى النَّاسِ حَالَتِي ** إِذَا صِرْتُ فِي قَبْرِي وَحِيْداً أُمَلْمَلُ

اللَّهُمَّ يا حي يا قيوم يا عَلَى يا عَظِيم أبرم لهذه الأمة أمرَ رشد يعز فِيه أَهْل طَاعَتكَ ويذل فِيه أَهْل معصيتك ويؤمر فِيه بالمعروف وينهي فِيه عن الْمُنْكَر اللَّهُمَّ بارك فِي أعمارنا وأصلح أعمالنا ونياتنا وذرياتنا وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلى الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.

.موعظة:

عِبَادَ اللهِ: من عِبَادِ اللهِ من ترونه سيء الخلق، عنيفاً شرساً فِي كُلّ حال إن قال فعنف قوله ينطق بالكلمة فلعنفها تحدث من الشر ما لا يحكيه المقال إن مثل هَذَا لا تطول معه عشرة نساء ولا صداقة رِجَال ولا يجد قلباً يعطف عَلَيْهِ ولَوْ كَانَ فِي أشد الأحوال ولَوْ قيل لك إن البهائم تنفر منه لعنفه وشراسته فصدِّق هَذَا المقال وللناس عذر واضح فِي نفورهم من هَذَا العنيف السيء الأخلاق ولا لوم عَلَيْهمْ إِذَا فارقوه الفراق الَّذِي لَيْسَ بعده من تلاق فإن الطباع البشرية متفقة عَلَى بغض العنْف وكيف يحب النَّاس من يؤذيهم بأقواله وأفعاله بسبب وبغَيْر سبب فالعنيف شؤم عَلَى نَفْسه قبل أن يكون شؤماً عَلَى سواه وَرُبَّمَا عم شؤمه دنياه وأخراه قال صلى الله عليه وسلم: «من يحرم الرفق يحرم الْخَيْر كله» رواه مسلم وأَحَمَد وأبو داود وابن ماجه، وفِي الْحَدِيث الآخر: «إن الله تعالى رفيق يحب الرفق، ويعطي عَلَى الرفق ما لا يعطي عَلَى العنف» رواه مسلم.
أما الرفيق: فهو الْعَبْد الحسن الخلق الوقور الحليم الَّذِي أينما كَانَ ومتي كَانَ تصبو إليه القُلُوب لأنه إن قال فقوله حلَوْ لأنه أديب حكيم وإن فعل فأفعاله ترشد إلي تعلمِ الأدب ولَيْسَ بنو آدم الَّذِينَ يحبون الرفق، بل يشاركهم فِي ذَلِكَ سائر الحيوانات، وإن شئت فَانْظُرْ مبلغ حنين تلك الحيوانات إليهم فكن رفيقاً أيها المُؤْمِن تجمَعَ بين حب الله وحب عباده ولَيْسَ بعد ذَلِكَ لذوي النهي أرب، اللَّهُمَّ اختم لنا بخاتمة السعادة وَاجْعَلْنَا ممن كتبت لّهُمْ الحسني وزيادة وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيع المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلى الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.

.فَصْل فِي بَيَانِ تَحْرِيْمِ الحَسَد:

اعْلم وفقنا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع المُسْلِمِيْنَ وجنبنا وَإِيَّاكَ وإياهم كُلّ خلق ذميم: أن مِمَّا يتأكد اجتنابه فِي كُل زمان ومكَانَ الحسد إذ هُوَ من الذُّنُوب المهلكات، ومعني الحسد: أن يجد الإنسان فِي صدره وقَلْبهُ ضَيِّقاً وحرجاً وكراهية لنعمة أنعم الله بِهَا عَلَى عبد من عباده فِي دينه أو دنياه حتي أنه ليحب زوالها عنهُ وَرُبَّمَا تمني ذَلِكَ أو سعي فِي إزالتها وحسبك بذمه وقبحه أن الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ من شر الحاسد كما أمر بالاستعاذة من شر الشيطان قال الله تعالى: {وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}.
والحرص والحسد من مداخل الشيطان إلي الْقَلْب فمهما كَانَ الْعَبْد حريصاً عَلَى كُلّ شَيْء أعماه وأصمه قال صلى الله عليه وسلم: «حبك للشَيْء يعمي ويصم». ونور البصيرة هُوَ الَّذِي يعرف مداخل الشيطان فإِذَا غطاه الحسد والحرص لم يبصر فحينئذ يجد الشيطان فرصة فيحسن عِنْدَ الحريص كُلّ ما يوصله إلي شهواته وإن كَانَ منكراً وفاحشاً، فبالحسد لعنَ إبلَيْس وجعل شيطانَاً رجيماً وأما الحرص فإنه أبيح لآدم الْجَنَّة كُلّهَا إلا الشجرة، فأصاب حاجته إبلَيْس من آدم بالحرص فأكل من الشجرة التي نهاه الله عنها.
ومن أجل أن الحسد بهذه الدرجة ورد فِيه تشديد عَظِيم حتي قال فِيه الرَّسُول صلى الله عليه وسلم: «الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب» رواه أبو داود وابن ماجه، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «لا يجتمَعَ فِي جوف عبد غبار فِي سبيل الله، وفيح جهنم ولا يجتمَعَ فِي جوف عبد الإيمان والحسد» رواه ابن حبان فِي صحيحه ورواه البيهقي.
والَّذِي يجب أن يفهم من هَذَا الْحَدِيث: أن الإيمان الصادق الكامل الَّذِي يستحضر صاحبه أن كُلّ أفعال الله لحكمة لا يجتمَعَ مَعَ الحسد الَّذِي يغضب من فعل الله وقسمته وَيَقُولُ صلى الله عليه وسلم فِي الحسد: «لا يزال النَّاس بخَيْر ما لم يتحاسدوا» رواه الطبراني، والمعني وَاللهُ أَعْلم: أنَّهُمْ إِذَا تحاسدوا ارتفع الْخَيْر مِنْهُمْ وكيف لا يرتفع مِنْهُمْ الْخَيْر وكل مِنْهُمْ يتمني أن يزول الْخَيْر الَّذِي عِنْدَ أخيه، ونهي صلى الله عليه وسلم عن الحسد فَقَالَ: «ولا تحاسدوا» والحسد نتيجة من نتائج الحقَدْ وثمرة من ثمراته المترتبة عَلَيْهِ فإن من يحقد عَلَى إنسان يتمني زَوَال نعمته ويغتابه وينم عَلَيْهِ ويعتدي عَلَى عرضه، ويشمت فِيه لما يصيبه من البَلاء، وغَيْرَ ذَلِكَ من الصفات المذمومة التي لا تليق بالإنسان وكثيراً ما تري الحاسد ينقب عن مساوئ المحسود فيبرزها عَلَى صفة الذم والتثريب فينتبه المحسود لها ويتجنبِهَا فيكون السبب فِي إزالتها عدوه الحاسد كما قيل:
عُدَاتِي لَهُمْ فَضْلٌ عَلَيَّ وَمِنَةً ** فَلاَ أَذْهَبَ الرّحْمَنُ عَنّي الأعَادِيَا

هُمُوْا بَحَثُوْا عن زَلَّتِي فاجْتَنَبْتُهَا ** وَهُمْ نَافَسُونِي فَاكْتَسَبْتُ المَعَالِيَا

وَيَقُولُ الآخر:
وَإِذَا أَرَادَ اللهُ نَشْرَ فَضِيْلَةٍ ** طُوِيَتْ أَتَاحَ لَهَا لِسَانَ حُسُودِ

لَوْلاَ اشْتِعَالُ النَّارِ فِي جزل الغَضَا ** مَا كَانَ يُعْرِفُ طِيْبُ رِيْحِ العُوْدِ

آخر:
مُحَسَّدُوْنَ وَشَرُّ النَّاسِ مَنْزِلَةً ** مَنْ عَاشَ فِي النَّاسِ يَوْماً غَيْرَ مَحْسُودِ

آخر:
إِنّي حُسِدْتُ فَزَادَ اللُه فِي حَسَدِي ** لاَ عَاشَ مَنْ عَاشَ يَوماً غَيْرَ مَحْسُودِ

مَا يُحْسَدُ المَرءُ إلا مِنْ فَضَائِلِهِ ** بِالعِلْمِ والظُّرْفِ أَوْ بِالْبَأسِ والجُوْدِ

آخر:
سُبْحَانَ مَنْ َسَّخَر لِي حَاسِدِي ** يُحْدِثُ لِي فِي غَيْبَتِي ذِكْرَا

لاَ أَكْرَهُ الغِيْبَةَ مِنَ حَاسِدِيْ ** يُفِيدُنِيْ الشُهْرَةَ وَالأجْرَا

وكفِي بالحقَدْ ذماً أن يكون الحسد ثمرة من ثمراته وأثراً من آثاره.
فَلاَ تَحْسِدَنْ يَوماً عَلَى فَضْلِ نِعْمَةٍ ** فَحَسْبُكَ عَاراً أَنْ يُقَالَ حَسُوْدُ

آخر:
ألا قُلْ لِمَنْ كَانَ لِي حَاسِداً ** أَتَدْرِيْ عَلَى مَنْ أَسَأَتَ الأدَبْ

أَسَأَتَ عَلَى اللِه فِي فِعْلِهِ ** لأَنَّكَ لم تَرّضَ لِي مَا وَهَبْ

وفِي الغالب أن الحسد يكون بين النظراء والزملاء وأرباب الصناعات والمراتب والمناصب الحكومية فالتاجر يحسد التاجر والصانع يحسد الصانع والنجار يحسد النجار والفلاح يحسد الفلاح وأرباب الجاه يحسدون أرباب الجاه وذوو المناصب الحكومية يحسد بَعْضهمْ بعضاً ومن الأمثال المتداولة قولهم عدو المرء من يعمل عمله وللحسد أعاذنا الله وَجَمِيع المُسْلِمِيْنَ منه مراتب.
أحدها أن يتمني زَوَال النعمة عن الغَيْر، ويعمل ويسعي فِي الوسائل المحرمة الظالمة ويسعي فِي إساءته بكل ما يستطيع وهَذَا الغاية فِي الخبث والخساسة والنذالة وهذه الحالة هِيَ الغالبة فِي الحساد خصوصاً المتزاحمين فِي صفة واحدة فإن من يربح مِنْهُمْ ربحاً كبيراً أو يظفر بلذة يرقبِهَا غيره فإن ذَلِكَ الغَيْر يحسده عَلَى ما حصل لَهُ من ذَلِكَ ويسعي إلي حرمانه فِي ذَلِكَ الرِّبْح ليظفر هُوَ به ويكثر ذَلِكَ فِي طلاب المناصب والجاه.
المرتبة الثَّانِيَة: أن يتمني زَوَال النعمة ويحب ذَلِكَ، وإن كانت لا تنتقل إليه، وهَذَا أيضاً فِي غاية الخبث، ولكنها دون الأولي.
الثالثة أن يجد من نَفْسهِ الرغبة فِي زَوَال النعمة عن المحسود سواءً انتقُلْتُ إليه أو إلي غيره ولكنه فِي جهاد مَعَ نَفْسهِ وكفها عن ما يؤذي خوفاً من الله تعالى وكراهية فِي ظلمِ عِبَادِ اللهِ ومن يفعل هَذَا يكون قَدْ كفِي شر غائلة الحسد، ودفع عن نَفْسهِ العقوبة الأخروية ولكن ينبغي لَهُ أن يعالج نَفْسهُ من هَذَا الوباء حتي يبرأ منه.
الحالة الرابعة: أن يتمني زَوَال النعمة عن الغَيْرِ، بغضاً لذلك الشخص، لسبب شرعي، كأن يكون ظالماً يستعين عَلَى مظالمه بهذه النعمة فيتمني زوالها ليريح النَّاس من شره ومثل أن يكون فاسقاً يستعين بهذه النعمة عَلَى فسقه وفجوره، فيتمني زَوَال المغل هَذَا عنهُ ليريح العباد والْبِلاد من شره القاصر والمتعدي، فهَذَا لا يسمي حسداً مذموماً وإن كَانَ تعريف الحسد يشمله، ولكنه فِي هذه الحال يكون ممدوحاً لاسيما إِذَا كَانَ يترتب عَلَيْهِ عمل يدفع هَذَا الظلم والعدوان ويردع هَذَا الظالم.
الحالة الخامسة: أن يحب ويتمني لنفسه مثلها فإن لم يحصل لَهُ مثلها فلا يحب زوالها عن صاحبِهَا فهَذَا لا بأس به إن كَانَ كالنعم الدنيوية كالْمَال المباح والجاه المباح وإن كَانَ من النعم الدينية كالعلم الشرعي والعبادة الشرعية كَانَ محموداً كأن يغبط من عنده مال حلال ثُمَّ سلط عَلَى هلكته فِي الحق من واجب ومستحب فإن هَذَا من أعظم الأدلة عَلَى الإيمان ومن أعظم أنواع الإحسان وَكَذَا من آتاه الله الحكمة والعلم فوفق لنشره، كما فِي الْحَدِيث: «لا حسد إلا فِي اثنتين رجل آتاه الله مالاً، فسلطه عَلَى هلكته فِي الحق، ورجل آتاه الله الحكمة، فهو يقضي بِهَا ويعلمها».
فهذان النوعان من الإحسان لا يعادلهما شَيْء إلا إن ترتب عَلَيْهِ وساوس شيطانية، وخواطر نفسانية تجر الإنسان إلي مواضع الخطر التي تفسد عمله كأن يَقُولَ فِي نَفْسهِ أَنَا أحق منه بهَذَا فهَذَا اعتراض عَلَى حكمة الله وقسمته ولا يجوز ذَلِكَ:
عَيْنُ الحَسُودِ عَلَيْكَ الدَّهْرَ حَارِسَةٌ ** تُبْدِي المَسَاوِئ والإحْسَانَ تُخْفِيه

يَلْقَاكَ بِالبِشْرِ بِيَدْيِهِ مُكَاشَرَةً ** والْقَلْبُ مَضْطَغِنٌ فِيه الَّذِي فِيه

إِنْ الحَسُودَ بِلاَ جُرْمٍ عَدَاوَتُهُ ** فلَيْسَ يَقْبَلُ عُذْراً فِي تَجَنِيَّهِ

آخر:
عَلَيْكَ أَخَي بِالتُّقَى وَلُزُوْمه ** وَلاَ تُكْثِرَنْ مَا فِيه زَيْدٌ وَلاَ عَمْرُوْ

فَزَهْرَةُ ذِي الدُّنْيَا سَرِيْعٌ ذُبُولُهَا ** وفِي نَهْي طَهَ لِلّنَّبِي لَنَا ذِكْرُ

وَكُنْ مُنْشِداً مَا قَالَ بَعْضُ أُوْلِي النُهَى ** فَكم حِكْمَةٍ غَرَّاءَ قَيَّدَهَا الشِّعْرُ

إِذَا المَرْءُ جَازَ الأرْبَعِيْنَ وَلم يَكُنْ ** لَهُ دُوْنَ مَا يَأْتِي حَيَاءٌ وَلاَ سِتْرُ

فَدَعْهُ وَلاَ تَنْفُسْ عَلَيْهِ الَّذِي أَتَى ** وَإِنْ مَدَّ أَسْبَابَ الحَيَاةِ لَهُ العُمْرُ

آخر:
أَأَقْصُدُ بِالمَلاَمَةِ قَصْدَ غَيْرِي ** وَأَمْرِي كُلُّهُ بَادِي الخِلاَفِ

إِذَا عَاَش امْرُؤٌ خَمْسِيْنَ عَاماًَ ** ولم يُرَ فِيه آثَارُ العَفَافِ

فَلاَ يُرْجَى لَهُ أَبَداً رَشَادٌ ** فقَدْ أَرْدَى بِنِّيَتِهِ التَّجَافِي

وَلِمَ لاَ أَبْذُلُ الإنْصَافَ مِنِي ** وَأَبْلُغُ طَاقَتِي فِي الانْتِصَافِ

لِي الوَيْلاَتُ إِنْ نَفَعَتْ عِظَاتِي ** سِوايَ ولَيْسَ لِي إلا القَوَافِي